الجنايات

أوصى بعدم العفو عن قاتل ابنه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فإن الله تعالى قد جعل لأولياء الدم الحق في أن يقتصوا أو يعفوا فقال جل من قائل {كتب عليكم القصاص في القتلى} إلى قوله سبحانه {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسـلم أنه قال: «ومن قتل له قتيل فهو بخير النّظرين، إمّا أن يعفو وإمّا أن يقتل» رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد رغبت الشريعة أولياء الدم في العفو فقال سبحانه {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} ورغَّب في ذلك ربنا جل جلالـه بقوله {فمن تصدق به فهو كفارة له} قال ابن جزي رحمه الله تعالى: فيه تأويلان: أحدهما: من تصدق من أصحاب الحق بالقصاص وعفا عنه، فذلك كفارة له يكفر الله ذنوبه لعفوه وإسقاطه حقه، والثاني: من تصدق وعفا فهو كفارة للقاتل والجارح بعفو الله عنه في ذلك لأن صاحب الحق قد عفا عنه، فالضمير في له على التأويل الأول يعود على التي هي كفاية عن المقتول أو المجروح، أو الولي، وعلى الثاني يعود على القاتل أو الجارح وإن لم يجر له ذكر، ولكن سياق الكلام يقتضيه، والأول أرجح لعود الضمير على مذكور، وهو {من} ومعناها واحد على التأويلين، إلا أن التأويل الأول بيان لأجر من عفا، وترغيب في العفو، والتأويل: بيان لسقوط الإثم عن القاتل أو الجارح إذا عُفي عنه.ا.هــــ

وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْمُرَاد ب فَمَنْ تَصَدَّقَ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْهُمْ، وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَاءُ الْعِوَضِ فِي قَوْلِهِ بِالنَّفْسِ إِلَخْ، أَيْ مَنْ تَصَدَّقَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَهُ، أَيْ تَنَازَلَ عَنِ الْعِوَضِ. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِد إِلَى فَمَنْ تَصَدَّقَ. وَالْمُرَادُ مِنَ التَّصَدُّقِ الْعَفْوُ، لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمَّا كَانَ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ بِيَدِ مُسْتَحِقِّ الْأَخْذِ بِالْقِصَاصِ جُعِلَ إِسْقَاطُهُ كَالْعَطِيَّةِ لِيُشِيرَ إِلَى فَرْطِ ثَوَابِهِ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَى كَفَّارَةٌ لَهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُ ذُنُوبًا عَظِيمَةً، لِأَجْلِ مَا فِي هَذَا الْعَفْوِ مِنْ جَلْبِ الْقُلُوبِ وَإِزَالَةِ الْإِحَنِ وَاسْتِبْقَاءِ نُفُوسِ وَأَعْضَاءِ الْأُمَّةِ.ا.هـــــ

وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} يحتمل ثلاثة معان، أحدها أن تكون {فمن} للمجروح أو ولي القتيل. ويعود الضمير في قوله: {له} عليه أيضاً ، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة) وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم. وقال به أيضاً قتادة والحسن ، والمعنى الثاني أن تكون {فمن} للجروح أو ولي القتيل، والضمير في {له} يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه: فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في {له} يعود عليه أيضاً، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهداً قال إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير. فإن كان بعينك بأس فإنها بها.

قال القاضي أبو محمد: وانظر أن {تصدق} على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوماً تأولوا الآية أن المعنى {والجروح قصاص} فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت. قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل قلق.ا.هــــــ

والنصوص الحاثة على العفو كثيرة كقوله تعالى {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} وقوله تعالى {وليعفوا وليصفحوا} وقوله سبحانه وتعالى {وأن تعفوا أقرب للتقوى} وقوله جل جلالـه {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله تعالى {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

وقد ثبتت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسـلم مرغِّبةً في العفو حاثة عليه؛ كقوله عليه الصلاة والسلام (ما ظلم عبد مظلمة فعفا إلا زاده الله بها عزا) وقوله صلى الله عليه وسـلم (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء) وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنّ الرّبيّع- وهي ابنة النّضر- كسرت ثنيّة جارية فطلبوا الأرش، وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم بالقصاص. فقال أنس بن النّضر: أتكسر ثنيّة الرّبيّع يا رسول الله؟ لا والّذي بعثك بالحقّ لا تكسر ثنيّتها!! فقال: «يا أنس، كتاب الله القصاص» فرضي القوم وعفوا، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه»

وعليه فإن هذه الوصية من الوالد ليست بملزمة لأوليائه بعد موته؛ بل هم بخير النظرين إن شاءوا اقتصوا وإن شاءوا عفوا؛ لأن قضاء الله أسبق وشرط الله أوثق، ورضا الله جل جلاله قبل رضا الوالد، والله تعالى أعلم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى