خطب الجمعة

معاني التضحية

خطبة الجمعة 30-05-2025

الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ وصفيُّهُ وخليلهُ، بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأمةَ وجاهدَ في سبيلِ ربِّهِ حقَّ الجهادِ، ولم يتركْ شيئًا مما أُمرَ به إلا بلَّغه، فتحَ اللهُ به أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلبًا غلفًا، وهدى الناسَ من الضلالةِ ونجَّاهم من الجهالةِ وبصَّرهم من العمى، وأخرجهم من الظلماتِ إلى النورِ، وهداهم بإذنِ ربِّهِ إلى صراطٍ مستقيمٍ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِكَ ونبيِّكَ محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ ومن اقتفى أثرهُ واهتدى بهداه.

أما بعدُ، فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ اللهِ تعالى، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلُّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النارِ، وما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثرَ وألهى، ﴿وَإِنَّمَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.

أما بعدُ، أيها المسلمون عبادَ اللهِ، فإنَّا في أيامٍ مباركةٍ، أيامِ اللهِ عزَّ وجلَّ، الموفقُ فيها من سابقَ إلى الطاعاتِ وسارعَ إلى القرباتِ وأرى اللهَ عزَّ وجلَّ من نفسِهِ خيرًا. قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ تعالى من هذهِ الأيامِ»، قالوا: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلا رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ ثم لم يرجعْ من ذلكَ بشيءٍ».

أيها المسلمون عبادَ اللهِ، هذهِ الأيامُ تجتمعُ فيها أمهاتُ العباداتِ كلُّها، ففيها الصلاةُ والصيامُ والصدقةُ والحجُّ والعمرةُ والأضحيةُ، وفيها كذلك التكبيرُ والتهليلُ وقراءةُ القرآنِ وغيرُ ذلكَ من الأعمالِ الصالحاتِ. أسألُ اللهَ سبحانهُ أن يجعلَنا من المقبولين.

وفي قمةِ هذهِ الصالحاتِ، أيها المسلمون عبادَ اللهِ، ما يؤدِّيهِ المسلمُ غيرُ الحاجِّ من التقربِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بنحرِ الأضاحي في يومِ النحرِ والأيامِ الثلاثةِ التي تليهِ، فإنَّ هذهِ الأضحيةَ أجرُها عندَ اللهِ عظيمٌ وثوابُها كبيرٌ. قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: «ما عملَ آدميٌّ يومَ النحرِ عملًا أحبَّ إلى اللهِ تعالى من إراقةِ دمٍ، وإنَّهُ لَيَقَعُ بموقعٍ من اللهِ قبلَ أن يقعَ على الأرضِ، وإنَّهُ لَتَأْتِي يومَ القيامةِ بقرونِها وأظلافِها، فطيبوا بها نفسًا». ولما سألهُ الصحابةُ الكرامُ فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ما هذهِ الأضاحي؟ قال: «سنةُ أبيكم إبراهيمَ»، قالوا: فما لنا فيها من الأجرِ؟ قال: «لكم بكلِّ شعرةٍ حسنةٌ»، قالوا: فالصوفُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «لكم بكلِّ شعرةٍ من الصوفِ حسنةٌ». وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «من وجدَ سعةً فلم يُضَحِّ فلا يقربنَّ مصلَّانا». قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾.

أيها المسلمون عبادَ اللهِ، إنَّ كثيرًا من الناسِ يؤدُّون هذهِ الشعيرةَ المباركةَ على أنَّها عادةٌ من العاداتِ، أو أنَّها شاةُ لحمٍ يُرادُ بها إدخالُ السرورِ على الزوجاتِ والأولادِ، لكنَّ الأمرَ أعظمُ من ذلكَ بكثيرٍ. إنَّا حينَ نُضَحِّي نتذكرُ الخليلَ إبراهيمَ عليهِ السلامُ، ذاكَ الذي سارعَ إلى تنفيذِ أمرِ اللهِ حينَ قالَ لولدِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾، ما قالَ ذلكَ على سبيلِ الاستشارةِ والتخييرِ لولدِهِ، بل من أجلِ تطييبِ قلبِهِ وليشاركَهُ ولدُهُ في الأجرِ والثوابِ. فما خيَّبَ الولدُ ظنَّ أبيهِ، بل كانَ كأبيهِ في مرضاةِ اللهِ، قالَ: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.

حينَ نُضَحِّي نتذكرُ أنَّنا مأمورونَ بالمسارعةِ في طاعةِ اللهِ، وأنَّهُ ليسَ لنا خيارٌ مع أمرِ اللهِ، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾. أيها المسلمون عبادَ اللهِ، حينَ نُضَحِّي نتذكرُ أنَّ هذا الدينَ قائمٌ على التضحيةِ، من لدنِ أبينا آدمَ عليهِ السلامُ إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، كلُّ من أرادَ أن ينصرَ دينَ اللهِ فعليهِ أن يُضَحِّي، أن يُضَحِّي بوقتِهِ، أن يُضَحِّي بمالِهِ، أن يُضَحِّي بولدِهِ، بزوجِهِ، بوظيفتِهِ، بجاهِهِ، بل لو وصلَ الأمرُ إلى أن يُضَحِّي بنفسِهِ فإنَّهُ يسارعُ في ذلكَ. من آثرَ وظيفتَهُ أو جاهَهُ أو ولدَهُ أو زوجَهُ أو مالَهُ على اللهِ وطاعةِ رسولهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فما تبعَ أمرَ اللهِ. ولذلكَ ربُّنا جلَّ جلالُهُ ذكرَ ثمانيةَ أشياءَ عليها مدارُ هذهِ الدنيا، وأخبرَنا أنَّ هذهِ الأشياءَ أو واحدًا منها لو كانَ أحبَّ إلينا من اللهِ ورسولهِ فقد استحقَّ ذلكَ المحبُّ لها وصفَ الفسقِ، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

القرآنُ الكريمُ يحكي لنا فيهِ ربُّنا تباركَ وتعالى مسيرةَ الأنبياءِ، كيفَ ضحَّوا في سبيلِ اللهِ؟ كيفَ سهروا اللياليَ وبذلوا الأعمارَ والمهجَ والأموالَ نصرةً لدينِ اللهِ؟ هذا نبيُّ اللهِ نوحٌ عليهِ السلامُ، لبثَ في قومِهِ ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عامًا، يدعوهم إلى اللهِ بالليلِ والنهارِ، علانيةً اتهموهُ في عقلِهِ، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾، اتهموهُ في نيتِهِ، ﴿مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾، اتهموهُ بالضلالِ، ﴿إِنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، تحمَّلَ هذا كلَّهُ في سبيلِ اللهِ. وهذا الخليلُ إبراهيمُ عليهِ السلامُ، بذلَ مالَهُ للضيفانِ، وبدنَهُ للنيرانِ، وولدَهُ للقربانِ، فاستحقَّ أن يكونَ للناسِ إمامًا، ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾. وهذا الكليمُ موسى عليهِ السلامُ، يواجهُ فراعنةَ عصرِهِ وطواغيتَ زمانِهِ، فرعونَ وهامانَ وقارونَ، يدعوهم إلى اللهِ، ويصبرُ على الأذى في سبيلِ اللهِ، ويخافُ من أجلِ اللهِ، ثم بعدَ يصبرُ على قومِهِ أولئكَ الذين جُبلوا على الفسوقِ والعصيانِ، يصبرُ على هذا كلِّهِ من أجلِ اللهِ.

أما محمدٌ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فهو المثلُ الأعلى والقدوةُ الحسنةُ، الذي كانَ في قومِهِ صادقًا أمينًا مطاعًا مكينًا، لما قالَ لهم: قولوا لا إلهَ إلا اللهُ، صارَ عندهم كاذبًا مجنونًا ساحرًا كاهنًا، تتنزلُ عليهِ أساطيرُ الأولينَ، فصبرَ على هذا كلِّهِ من أجلِ اللهِ، ضحَّى من أجلِ أن ينصرَ دينَ اللهِ، من أجلِ أن تبلغَ دعوتُهُ الآفاقَ، ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾. وكذلكَ أصحابُهُ رضوانُ اللهِ عليهم، تعلموا منهُ أن يُضَحُّوا في سبيلِ اللهِ، أن يُضَحُّوا من أجلِ دينِ اللهِ. لما جاءَهُ خبابُ بنُ الأرتِ رضي اللهُ عنهُ شاكيًا وقد سالتْ منهُ الدماءُ من آثارِ التعذيبِ، وهو ومن معهُ يقولونَ: يا رسولَ اللهِ، ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصرُ لنا؟ لقد لقينا من المشركينَ شدةً وعنتًا. ماذا قالَ لهم رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم؟ علَّمهم أنَّ دينَ اللهِ لا ينتصرُ إلا بدماءٍ، بتضحياتٍ، ببذلٍ للمهجِ والأرواحِ، قالَ لهم: «والذي نفسي بيدِهِ، لقد كانَ يُؤتى بالرجلِ ممن كانَ قبلَكم فيُحفرُ لهُ في الأرضِ، ويُوضعُ المنشارُ على رأسِهِ حتى يُفرَّقَ بينَ رجليهِ، ويُمشَّطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لحمِهِ وعظمِهِ، ما يردُّهُ ذلكَ عن دينِهِ، والذي نفسي بيدِهِ ليتمنَّ هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يخشى إلا اللهَ والذئبَ على غنمِهِ، ولكنَّكم قومٌ تستعجلونَ».

نقشتْ هذهِ الكلماتُ في قلوبِ الصحابةِ عليهم من اللهِ الرضوانُ كما تُنقشُ في الحجرِ الأصمِّ، علموا أنَّ دينَ اللهِ لا ينتصرُ إلا بتضحياتٍ، ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾. فكانَ من هؤلاءِ المضحِّينَ الصدِّيقُ أبو بكرٍ رضي اللهُ عنهُ، تقولُ ابنتُهُ أسماءُ رضي اللهُ عنها: خرجَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم مهاجرًا، وخرجَ معهُ أبو بكرٍ، وحملَ معهُ ما لهُ كلَّهُ خمسةَ آلافٍ أو ستةَ آلافِ درهمٍ، فجاءَ جدِّي أبو قحافةَ وقد ذهبَ بصرُهُ، فقالَ: ما أراكم إلا فجعكم بمالِهِ ونفسِهِ، فقلتُ: لا يا جدِّ، بل تركَ لنا خيرًا كثيرًا. تقولُ رضي اللهُ عنها: وأخذتُ كومةً من حجارةٍ فوضعتُها في قوةٍ من جدارٍ كانَ أبي يضعُ فيها مالَهُ وبسطتُ عليها ثوبًا، ثم أخذتُ بيدِ جدِّي وقلتُ: يا أبتِ، تركَ لنا خيرًا كثيرًا، ووضعتُ يدَهُ على تلكَ الحجارةِ، قالَ: إن كذلكَ فنعمْ. أسماءُ رضي اللهُ عنها وهي إذ ذاكَ شابةٌ حديثةُ السنِّ، ترجو ما يرجو أترابُها من الذهبِ والفضةِ، من الأصفرِ والأبيضِ، من الحريرِ، لكنَّها رضي اللهُ عنها ضحَّتْ مع أبيها في سبيلِ اللهِ.

وهكذا عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنهُ، أُوذيَ في اللهِ وضُربَ حينَ أعلنَ إسلامَهُ، ثم بعدَ خرجَ مهاجرًا للهِ وشهدَ المشاهدَ كلَّها مع رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، تقولُ عائشةُ رضي اللهُ عنها: حينَ نظرتُ إلى عمرَ علمتُ أنَّهُ باذلٌ نفسَهُ وما لهُ للهِ عزَّ وجلَّ. وهكذا عليٌّ رضي اللهُ عنهُ يومَ الهجرةِ، ضحَّى بنفسِهِ فباتَ في فراشِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، وقد علمَ أنَّ المشركينَ وقوفٌ ببابِهِ، وأنَّهم يتربصونَ بهِ دوائرَ السوءِ، ومع ذلكَ رضيَ أن يُضَحِّي بنفسِهِ من أجلِ اللهِ ونصرةً لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم. صهيبُ بنُ سنانٍ عليهِ من اللهِ الرضوانُ، خرجَ مهاجرًا فلحقَ بهِ المشركونَ حتى ألقوا القبضَ عليهِ وأوثقوهُ، وقفلوا بهِ راجعينَ إلى مكةَ، لكنَّهُ رضي اللهُ عنهُ اشتكى بطنَهُ ببعضِ الطريقِ مُظهِرًا يعاني الألمَ، ثم بعدَ ذلكَ هربَ منهم ثانيةً، فلما كادوا أن يلحقوا بهِ التفتَ إليهم، قالَ: تعلمونَ معشرَ قريشٍ أنِّي أرميكم رجلًا، أنا جيدٌ في الرمايةِ، واللهِ لا تصلونَ إليَّ حتى أرميَ بكلِّ سهمٍ في كنانتي، وإن شئتم دللتُكم على مالي فأخذتموهُ، قالوا: وأينَ مالُكَ؟ قالَ: بمكانِ كذا تحتَ أسقفةِ البابِ، فرضيَ القومُ ورجعوا وأخذوا المالَ، وخرجَ صهيبٌ رضي اللهُ عنهُ مهاجرًا، لما وصلَ إلى المدينةِ استقبلهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم متبسمًا راضيًا وهو يقولُ: «ربحَ البيعُ أبا يحيى، ربحَ البيعُ أبا يحيى».

أيها المسلمون عبادَ اللهِ، ما كانتْ تلكَ التضحيةُ قاصرةً على ذلكَ الجيلِ العظيمِ، على ذلكَ الجيلِ الفريدِ، بل في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ مصرٍ من يقومُ للهِ عزَّ وجلَّ بحجةٍ. هذا الشيخُ عزُّ الدينِ القسامُ، الذي خلَّدَ التاريخُ اسمَهُ، ورفعَ اللهُ ذكرَهُ، وما زالَ الناسُ يرددونَ هذا الاسمَ، هذا الرجلُ المباركُ جاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ ضدَّ الصليبيينَ الفرنسيينَ لما كانَ ببلدِهِ سوريا، ثم بعدَ ذلكَ لما ضيَّقَ عليهِ الخناقُ وبدأتْ ملامحُ المؤامرةِ تتضحُ في أرضِ الإسراءِ، خرجَ رضي اللهُ عنهُ ورحمهُ اللهُ إلى فلسطينَ، وما زالَ يجاهدُ حتى قلَّ في يدِهِ السلاحُ، فباعَ بيتَهُ الذي لا يملكُ غيرَهُ واشترى بثمنِهِ أربعًا وعشرينَ بندقيةً، وكذلكَ من كانوا معهُ من المجاهدينَ باعوا حليَّ زوجاتِهم وأثاثَ بيوتِهم من أجلِ أن يشتروا سلاحًا ورصاصًا فيعذروا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ إذا لقوهُ يقولونَ: يا ربِّ، قد أعددنا ما استطعنا من قوةٍ وبذلنا ما نستطيعُ من جهدٍ. هكذا كانَ الرجالُ بالأمسِ واليومَ وغدًا. أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يرزقَنا الاقتداءَ بهم والسيرَ على نهجِهم، وأن يجعلَنا ممن يستمعونَ القولَ فيتبعونَ أحسنَهُ.

توبوا إلى اللهِ، الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ تعظيمًا لشأنِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الداعي إلى رضوانِهِ، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ وأزواجِهِ وأنصارِهِ وإخوانِهِ. أما بعدُ، أيها المسلمون، فاتقوا اللهَ حقَّ تقاتِهِ، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

وممن ضحَّوا في سبيلِ اللهِ، خبيبُ بنُ عديٍّ رضي اللهُ عنهُ، ذلكَ القارئُ العالمُ المؤمنُ، لما جاءَ وفدٌ من عضلٍ والقارةِ إلى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ فينا إسلامًا، فابعثْ معنا نفرًا من أصحابِكَ يقرؤونَنا القرآنَ ويفقهونَنا في الإسلامِ. قالوا ذلكَ خداعًا ونفاقًا، فبعثَ معهم رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم نفرًا من خيرةِ أصحابِهِ، فيهم خبيبُ بنُ عديٍّ وزيدُ بنُ الدفنةِ وخالدُ بنُ البكيرِ وعبدُاللهِ بنُ طارقٍ وعامرُ بنُ البكيرِ، خرجوا رضوانُ اللهِ عليهم حتى إذا كانوا بماءٍ يقالُ لهُ الرجيعُ، صرخَ أولئكَ القومُ برِّجالٍ من هذيلٍ فغدروا بأولئكَ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم وأعملوا فيهم القتلَ، وأخذوا خبيبَ بنَ عديٍّ وزيدَ بنَ الدفنةِ فباعوهما بمكةَ في مقابلِ من قُتلوا يومَ بدرٍ. خبيبُ بنُ عديٍّ رضي اللهُ عنهُ حُبسَ من أجلِ أن يُقرَّبَ للقتلِ، وأُخرجَ رضي اللهُ عنهُ خارجَ الحرمِ إلى التنعيمِ، فلما صُلبَ الخشبةَ قالَ: اللهمَّ إنَّا قد خرجنا دعاةً إليكَ مناصرينَ لنبيِّكَ صلى اللهُ عليهِ وسلم، اللهمَّ أبلغْ رسولَكَ ما صُنعَ بنا الغداءَ. ثم دعا على المشركينَ قائلاً: اللهمَّ احصِهم عددًا واقتلْهم بددًا ولا تُغادرْ منهم أحدًا، ثم أنشدَ قائلاً وهو في غايةٍ من الثباتِ ورباطةِ الجأسِ: ولستُ أبالي حينَ أُقتلُ مسلمًا * على أيِّ جنبٍ كانَ في اللهِ مصرعي، وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإن يشأْ * يباركْ على أوصالِ شلوٍ من ممزعِ، ولستُ بمبدٍ للعدوِّ تخشعًا * ولا إنِّي إلى اللهِ مرجعي. ومضى إلى ربِّهِ شهيدًا.

وزيدُ بنُ الدفنةِ رضي اللهُ عنهُ، لما قُرِّبَ للقتلِ، قالَ لهُ أبو سفيانَ: يا زيدُ، ناشدتُكَ اللهَ، أتحبُّ أنَّكَ بينَ أهلِكَ وولدِكَ ومحمدٌ مكانَكَ؟ فقالَ رضي اللهُ عنهُ: واللهِ ما يسرُّني أنِّي بينَ أهلي وولدي ورسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم يُشاكُ بشوكةٍ. فتعجبَ أبو سفيانَ، قالَ: ما رأيتُ أحدًا يحبُّ أحدًا كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمدًا.

أيها المسلمون عبادَ اللهِ، هل كانتْ تلكَ التضحياتُ قاصرةً على الرجالِ؟ لا واللهِ. هذهِ نُسيبةُ بنتُ كعبٍ المازنيةُ رضي اللهُ عنها، الفاضلةُ العاقلةُ الجليلةُ الحازمةُ اللبيبةُ، يومَ أُحدٍ تقاتلُ دونَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، يقولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ما التفتُ يومَ أُحدٍ يمينًا ولا شمالاً إلا وجدتُها تقاتلُ دوني. ولمقامِها ذلكَ اليومَ خيرٌ من مقامِ فلانٍ وفلانٍ، فلانٍ وفلانٍ أي من الرجالِ. هذهِ المرأةُ الصالحةُ رضي اللهُ عنها وأرضاها، أُصيبتْ يومَ أُحدٍ في كتفِها بجرحٍ غائرٍ، يقولُ ولدُها: كنتُ أدخلُ يدي فتغيبُ فيهِ. قالَ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لولدِها: دونكَ أمَّكَ اعصمْ جرحَها. فلما عصبَ جرحَها، قالتْ لهُ: يا بني، انهضْ قاتلْ دونَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم. هذهِ المرأةُ الصالحةُ خرجَ ولدُها حبيبُ بنُ زيدٍ رضي اللهُ عنهُ، فأخذَهُ مسيلمةُ الكذابُ، قالَ لهُ: أتشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ؟ قالَ: اللهمَّ نعمْ. قالَ لهُ مسيلمةُ: أتشهدُ أنِّي رسولُ اللهِ؟ قالَ لهُ: أصمُّ لا أسمعُ. فقطعَ منهُ عضوًا، ثم سألهُ ثانيةً، فكانَ الجوابُ نفسَهُ، فما زالَ يقطعُهُ عضوًا عضوًا حتى فاضتْ نفسُهُ، كانَ يملكُ رضي اللهُ عنهُ أن يتقيَ القتلَ وهو في ذلكَ معذورٌ، وقد قالَ جلَّ من قائلَ: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾، وقالَ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، لكنَّهُ أبى إلا أن يأخذَ بالعزيمةِ حتى فارقتْ روحُهُ جسدَهُ، فمضى إلى ربِّهِ شهيدًا. أمُّهُ رضي اللهُ عنها خرجتْ في حروبِ الردةِ، ما اكتفتْ بقتالِها الذي كانَ مع رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، بل خرجتْ في حربِ مسيلمةَ الكذابِ حتى أمكنَها اللهُ من قتلِهِ مشاركةً مع وحشيِّ بنِ حربٍ الذي قتلَ حمزةَ، وكانَ يقولُ: قتلتُ خيرَ الناسِ بعدَ رسولِ اللهِ، وقتلتُ بعدَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم.

أيها المسلمون عبادَ اللهِ، إذا تقربتم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ في يومِ العيدِ بنحرِ الأضاحي، تذكروا أنَّهُ ليسَ مطلوبًا منَّا أن نُضَحِّي ببهيمةِ الأنعامِ، بالمطلوبِ منَّا أن نُضَحِّي بأموالِنا، بأنفسِنا، بأعراضِنا، بسمعتِنا، بجاهِنا، بوظائفِنا، بكلِّ شيءٍ نصرةً لدينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، نصرةً للهِ ولرسولهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم. أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يهديَنا سواءَ السبيلِ، وأن يوفِّقَنا لما يحبُّ ويرضى، وأن يأخذَ بنواصينا إلى البرِّ والتقوى، وأن يختمَ لنا بخاتمةِ السعادةِ أجمعينَ.

اللهمَّ آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها. اللهمَّ إنَّا نسألُكَ الهدى والتقى والعفافَ والغنى، نسألُكَ فعلَ الخيراتِ وتركَ المنكراتِ وحبَّ المساكينِ. اللهمَّ إذا أردتَ بعبادِكَ فتنةً فاقبضْنا غيرَ مفتونينَ. اللهمَّ إنَّا نسألُكَ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ لهُ السماواتُ والأرضُ، أن تجعلَنا في حفظِكَ وحرزِكَ وجوارِكَ وتحتَ كنفِكَ. اللهمَّ إنَّا نسألُكَ خيرَ المسألةِ وخيرَ الدعاءِ وخيرَ الثوابِ وخيرَ النجاحِ وخيرَ العلمِ وخيرَ العملِ وخيرَ الحياةِ وخيرَ المماتِ، وثبِّتْنا وثقِّلْ موازينَنا وحقِّقْ إيمانَنا وارفعْ درجاتِنا وتقبَّلْ صلاتَنا، ونسألُكَ الدرجَ العُلا من الجنةِ. اللهمَّ اجعلْ لنا من كلِّ همٍّ فرجًا، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ومن كلِّ بلاءٍ عافيةً. اللهمَّ صبَّ علينا الخيرَ صبًّا صبًّا، ولا تجعلْ عيشَنا كدًّا، وافتحْ علينا من بركاتِ السماءِ خزائنَ الأرضِ. نسألُكَ خشيتَكَ في الغيبِ والشهادةِ، وكلمةَ الحقِّ في الغضبِ والرضا، والقصدَ في الفقرِ والغنى، ونسألُكَ نعيمًا لا ينفدُ، وقرةَ عينٍ لا تنقطعُ، ونسألُكَ بردَ العيشِ بعدَ الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهِكَ والشوقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضراءَ مضرةٍ ولا فتنةٍ مضلةٍ.

اللهمَّ يا سميعَ الدعاءِ، يا قريبَ الرجاءِ، يا غياثَ المستغيثينَ، ويا أمانَ الخائفينَ، يا أرحمَ الراحمينَ، ويا أكرمَ الراحمينَ، ويا خيرَ المسؤولينَ، ويا خيرَ المعطينَ، يا سامعَ كلِّ نجوى، ويا منتهى كلِّ شكوى، يا من يجيبُ المضطرَّ ويكشفُ الضرَّ، يا إلهَنا، يا سيدَنا، يا مولانا، نسألُكَ لإخوانِنا في غزةَ صبرًا جميلاً، وفرجًا قريبًا، وعافيةً من البلايا، وغنىً عن الناسِ. اللهمَّ أطعمْهم من جوعٍ، وآمنْهم من خوفٍ، اللهمَّ داوِ مريضَهم، واشفِ جريحَهم، وتقبَّلْ شهيدَهم، يا أكرمَ الأكرمينَ، ويا أرحمَ الراحمينَ. اللهمَّ إنَّ الكفارَ والمنافقينَ قد تآمروا عليهم ومكروا بهم، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ أن تنصرَهم على من بغى عليهم، اللهمَّ اعنْهم ولا تعنْ عليهم، وامكرْ لهم ولا تمكرْ عليهم، وانصرْهم على من بغى عليهم، اللهمَّ كنْ لهم ناصرًا ومعينًا، يا أرحمَ الراحمينَ، ويا أكرمَ الأكرمينَ. اللهمَّ احفظِ الحجاجَ والمعتمرينَ، وردَّهم سالمينَ غانمينَ، واغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ. وصلَّ اللهمَّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ وعلى جميعِ المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

معاني التضحية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى