مقالات

علماؤنا الأسرى وواجبنا تجاههم

لا يخلو زمانٌ من قائمٍ لله بحجة، فإن الخير لا ينقطع في هذه الأمة، وإذا كان التاريخ الأول قد حفظ لنا تلك المواقف المشرِّفة من أولئك العلماء الربانيين الذين رفع الله ذكرهم وخلَّد سِيَرهم، من أمثال: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن الأوزاعي، ومالك بن أنس الأصبحي، وأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، والمنذر بن سعيد البلوطي، وعز الدين بن عبد السلام، وأحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، فإن التاريخ المعاصر حفظ لنا أسماء لامعة لنجوم ساطعة زيَّن الله بها سماء هذه الأمة.

فلم يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، ولم يلووا ألسنتهم بالكتاب ولا بدلوا تبديلاً، بل صبروا على قولة الحق المر، وتحمَّلوا في سبيل ذلك تشويهاً للسمعة، وثَلماً للعرض، وانتقاصاً للحرية، وسلباً للكرامة، وكانت -وما تزال- نفوسهم راضية مطمئنة بسلامة الطريق وحسن المقصد، وأنهم على درب أولئك الأولين؛ مصداقاً لقول رسول الله ﷺ: “ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإذا عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم”. قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: “كما صنع أصحاب عيسى بن مريم؛ نُشروا بالمناشير، وحُملوا على الخُشُب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله”.

هؤلاء أفضل من العُبّاد وهؤلاء العلماء الربانيون الذين فقهوا عن الله مراده، وحفظوا حدوده؛ ولم يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، هم أفضل من العُبّاد، وأعلى درجة من الزُّهّاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، وقد قال النبي ﷺ: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتَوْا بغير علم فضلوا وأضلوا”. وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: “أرفع الناس عند الله منزلةً مَن كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء”. وقد رضي هؤلاء بالغنيمة الباقية الأبدية السرمدية، وهي رضوان الله عز وجل بأداء أمانته؛ فكانوا كما قال ربنا عنهم: ﴿ٱلَّذِینَ یُبَلِّغُونَ رِسَـٰلَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا یَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِیبࣰا﴾ [الأحزاب: ٣٩]. ضحوا بالوظائف والمغانم والرتب والألقاب، ولم يبالوا بالذي يصيبهم في سبيل الله؛ فكانوا أنجماً مضيئة على الطريق؛ حفظ الله بهم الدين وأقام بهم الحجة. واجبنا نحو أسرانا وقد سنَّ القائمون على مجلة أنصار النبي ﷺ -جزاهم الله خيراً- سُنّةً حسنة في التذكير بهؤلاء العلماء العاملين، حين حرصوا على نشر مقالاتهم والتذكير بجميل خطاباتهم ومواقفهم؛ بعدما أراد الطغاة الظالمون أن يُنسوا الناس ذكرهم، وأن يطمسوا سِيَرهم؛ وفي الوقت نفسه يُبرزون للناس في أجهزة إعلامهم بعض المزوِّرين المتشبِّعين بما لم يُعطَوا، اللابسين -زوراً- زيَّ العلماء، وما هم من العلم في قبيل ولا دبير؛ ممن تعُجُّ بهم القنوات، وتُسَوّد بمقالاتهم الصفحات.

وقد قال عيسى بن مريم عليه السلام مُصَوِّرًا حال أولئك، وكيف أنهم يصدُّون عن سبيل الله بمعسول القول وسيئ العمل: “مَثَلُ علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر؛ لا هي تشرب ولا هي تترك الماء يخلُص إلى الزرع، ومَثَل علماء السوء كمثل قناة الحُشِّ ظاهرها جَصٌّ وباطنها نتنٌ، ومثل القبور ظاهرها عامر، وباطنها عظام الموتى”. إن الواجبات التي ينبغي علينا القيام بها تجاه هؤلاء الأعلام الأسرى كثيرة ومن بينها: أولاً: نشر مناقبهم وإذاعة محاسنهم والتنويه بفضائلهم؛ فإن كثيراً من شباب اليوم يجهلون سيرة أولئك النبلاء، ولا يعرفون عنهم إلا قليلاً؛ وقد عهدنا من علمائنا الأولين الاهتمام بسيرة من كان هذا حالهم. ثانياً: دحض الشبهات التي يثيرها حولهم أبواق الطغاة من نبزهم بالألقاب، ورميهم بأنهم خوارج إرهابيون مثيرون للفتنة دعاة للتخلف، إلى غير ذلك من قالة السوء التي عهدت من المنافقين في كل زمان، حين يرمون المؤمنين بأنهم سفهاء: ﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ ءَامِنُوا۟ كَمَاۤ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤا۟ أَنُؤۡمِنُ كَمَاۤ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَاۤءُۗ أَلَاۤ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَاۤءُ وَلَـٰكِن لَّا یَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٣]. ثالثاً: نشر ما استطعنا من كتبهم ومقالاتهم وخُطَبهم ومحاضراتهم، وتذكير الناس بمأثور أقوالهم ونادر حِكَمِهم، وكذلك إحياء ما اندثر من ثناء العلماء الكبار عليهم والشهادة لهم بنافع العلم وصالح العمل. رابعاً: العناية بكفالة أسرهم والقيام على عوائلهم وسد خَلّتهم وستر عورتهم؛ فذاك أدنى الواجب الذي ينبغي على مجموع الأمة القيام به؛ إذ هؤلاء العلماء مجاهدون في سبيل الله، “ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا”. خامساً: تنشئة جيل من الشباب على الاقتداء بأولئك الأخيار، وتربيتهم على أن نصر دين الله عز وجل يكون بالتضحية في سبيله، وأن النعيم لا يدرك بالنعيم، ولولا تضحيات الأولين ما بلغ الدين للآخرين. سادساً: فضح أولئك الظلمة العتاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وتسلطوا على خيار الناس فسلقوهم بألسنة حداد، ثم لم يكتفوا بذلك حتى قيَّدوا حريتهم وحالوا بينهم وبين نفع العباد، ثم بعد ذلك ظهروا أمام رعيتهم بأنهم يريدون بذلك الصلاح كما قال سلفهم: ﴿ذَرُونِیۤ أَقۡتُلۡ مُوسَىٰ وَلۡیَدۡعُ رَبَّهُۥۤ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُبَدِّلَ دِینَكُمۡ أَوۡ أَن یُظۡهِرَ فِی ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡفَسَادَ﴾ [غافر: ٢٦]. سابعاً: على الإعلاميين أن يتقوا ربهم ويعلموا أن الكلمة أمانة، وأن الله تعالى سائلهم عما نطقت به ألسنتهم أو جرت به أقلامهم؛ فما ينبغي لهم خذلان هؤلاء المظلومين، وقد قال النبي ﷺ: “ما من أحد يخذل مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عِرضه ويُنتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته”. ثامناً: على رجال القانون ودعاة حقوق الإنسان من المسلمين أن يعلموا أن هؤلاء العلماء العاملين لا بواكي لهم، وأن المنظمات الكنسية والحقوقيين الغربيين لن يلتفتوا إليهم أو يعبئوا بالذي يصيبهم؛ والمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، ومن نفَّس عن مسلم كُربة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة، فعليهم أن يبذلوا كل ما يستطيعون في فكاك أولئك المظلومين، بإظهار ظُلاماتهم والدعوة إلى إطلاق سراحهم. تاسعاً: أما أولئك العلماء الرسميون ممن رضوا بالدون، وقنعوا بلُعاعة الدنيا وصافحت أيديهم أيدي أولئك الطغاة، ولم يلتفتوا إلى حال أولئك المضطهدين ممن تجمعهم بهم رحم العلم فواجبٌ عليهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل من سوء صنيعهم، ويتذكَّروا قول رسول الله ﷺ: “أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدَّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولستُ منه ولا يرد عليَّ الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يَغْشَ فلم يصدِّقهم في كذبهم، ولم يُعِنْهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد عليَّ الحوض”. عاشراً: واجبٌ على عموم الناس أن تلهج ألسنتهم بالدعاء لهؤلاء العلماء الأسرى، وأن يقنتوا في صلواتهم، أو على الأقل في صلاة الوتر من أجل تعجيل فرجهم وإطلاق سراحهم، ومن أجل أن تبقى قضيتهم حية لا يطويها النسيان. أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وباسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، أن يُحسن خلاصهم، ويعجِّل فرجهم، ويفك أسرهم، وينتقم لهم ممن ظلمهم؛ إنه سبحانه خير المسئولين وخير المعطين! والحمد لله رب العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى