خطب الجمعة

روح الحج

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير. يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو الرحيم الغفور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير والبشير النذير، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، هم المفلحون.

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد، أيها المسلمون عباد الله، فإن ربنا جل جلاله قد خلقنا لعبادته، كما قال جل من قائل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. ما خلقنا ليستكثر بنا من قلة، ولا لتعزَّ بنا من ذلة، ولا ليستعين بنا على أمر قد عجز عنه جل جلاله، بل خلقنا من أجل أن نذكره كثيرًا، ونعبده طويلًا، ونسبحه واصلاً. وكان من حكمته جل جلاله أن نوّع لنا هذه العبادات، فجعل بعضها عبادات يومية تتكرر في كل يوم وليلة كالصلاة، وجعل بعضها عبادات حولية تتكرر في كل عام مرة كالصيام والزكاة، وجعل بعضها عبادة عمرية كالحج.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن كتب عليكم الحج فحجوا»، فقال الأقرع بن حابس: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت عليه الصلاة والسلام حتى كررها الرجل ثلاثًا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم». لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مكث تسع سنين لم يحج، فلما كان العام العاشر أذن مؤذن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج هذا العام، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله. فحج عليه الصلاة والسلام بتلك الجموع الغفيرة حجة الإسلام، حجة الوداع، حجة البلاغ، التي بيّن فيها حقوق الإنسان وقواعد الحلال والحرام، وحدد فيها معالم الإسلام، وقال للناس: «لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا ألقى بعد عامي هذا أبدًا».

أيها المسلمون عباد الله، هذه العبادة العظيمة التي أجمع أهل الإسلام على أنها لا تجب إلا مرة في العمر، إنما جاءت من أجل تحقيق جملة من المعالم التي يقوم عليها بناء هذا الدين العظيم. أول هذه المعالم، أيها المسلمون عباد الله، التوحيد الخالص لله عز وجل. ديننا قائم على التوحيد ونفي الشرك، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: 256]. هذه العبادة، عبادة الحج، جاءت من أجل تحقيق هذا المعلم العظيم. ولذلك ربنا جل جلاله لما أمر الخليل عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج بيّن هذا المعلم: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 26-30]. ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30].

الله جل جلاله ينهى الخليل عليه السلام عن الشرك، ويخاطب عباده جميعًا بقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30]. ولذلك لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته بالبيداء، كان أول ما تكلم به أن أهلَّ بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك». وكان أصحابه رضوان الله عليهم يقولون: «لبيك وسعديك، والخير في يديك، الرغباء إليك والعمل»، ولم ينههم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء من ذلك.

أيها المسلمون عباد الله، إذا قيل إن الحج جعل من أجل إقامة التوحيد ونفي الشرك، فأول ما يدخل في التوحيد إخلاص العبادة لله عز وجل: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]. ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ [الزمر: 11-15]. الله جل جلاله أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك في عمله معه غيره، تركه وشركه، تركه للذي أشرك به. أول ما يجب على الحاج أن يخلّص عمله لله عز وجل، لا يباشر تلك المناسك من أجل الرياء والسمعة، ولا من أجل أن يقال عنه إنه حاج أو إنه قد حج البيت مرارًا، وإنما يحج استجابة لله عز وجل الذي فرض، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «لتأخذوا عني مناسككم».

ثاني تلك المعالم، أيها المسلمون عباد الله، ذكر الله عز وجل. مناسك الحج شرعت من أجل إقامة ذكر الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار من أجل إقامة ذكر الله». قال الله عز وجل: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة: 198]. ثم قال جل من قائل: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200]. ثم قال بعدها: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203]. ذكر الله عز وجل هو خير الأعمال وأفضلها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «ذكر الله». ذكر الله خير الأعمال، والحج جعل من أجل إقامة ذكر الله.

ثالث هذه المعالم، أيها المسلمون عباد الله، تعظيم حرمات الله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30]. ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]. الله جل جلاله سمى البيت الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام. جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس: ﴿وَلْيُوَلُّوا وُجُوهَهُمْ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: 2]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها». الحج، مشاعره ومناسكه، من أجل تعظيم البلد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام، من أجل تعظيم هذه الحرمات. الله جل جلاله يعلمنا في الحج كيف نعظم شعائره، كيف نعظم بلده الحرام وبيته الحرام وشهره الحرام.

رابع هذه المعالم، أيها المسلمون عباد الله، تقوى الله. الحج يعلمنا كيف نتقي ربنا جل جلاله. الله جل جلاله فرض علينا هذه المناسك، حرم علينا فيها أشياء منذ أن ينشئ الحاج نية النسك، فيقول: لبيك اللهم حجة، أو لبيك عمرة، أو لبيك اللهم عمرة في حجة، فإنه يمتنع عن قص أظفاره، أو أخذ شيء من شعر جسده أو جلده، يمتنع عن الطيب، عن لبس المخيط، عن صيد البر، عن غير ذلك من محظورات الإحرام. ثم بعد ذلك هو رقيب على نفسه، لا يراقبه شرطي ولا حاكم ولا ملازم له، وإنما يراقب نفسه. متى ما وقع في شيء من هذه المحظورات، فإن الله جل جلاله أوجب عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، اللهم إلا إذا وقع في الجماع فقد فسد حجه، ووجب عليه أن يلتزم به وأن يباشر وأن يمضي فيه، ثم يقضيه من قابل ويفدي ببدنة. هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا عظم الحاج تلك الحرمات، فإنه يرجع بعد ذلك وقد اعتاد أن يعظم حرمات الله عز وجل، اعتاد أن يعظم بيوت الله، أن يعظم كتاب الله، أن يعظم شعائر الله كيفما كانت وأينما كانت.

خامس تلك المعالم، متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. نبينا عليه الصلاة والسلام قال: «خذوا عني مناسككم». علمنا أن نكون في اليوم الثامن يوم التروية في منى، وفي اليوم التاسع على صعيد عرفة، وفي ليلة العاشر على صعيد مزدلفة، ثم في يوم العيد نأتي بأعمال أربعة: نرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم ننحر هدينا، ثم نطوف، ثم نحلق رؤوسنا أو نقصرها، ثم نطوف بالبيت العتيق طواف الإفاضة: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]. نلتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمانًا ومكانًا وكمية وكيفية، نصنع مثل الذي صنع. وهذا هو المعنى الذي لفت إليه أنظارنا سيدنا عمر رضي الله عنه لما كان يستلم الحجر الأسود، ثم يقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. يعلمنا عمر رضي الله عنه أننا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتزمون، ولسنته متابعون، لا نحكم عقولنا، ولا أهواءنا، ولا أمزجتنا، وإنما نصنع مثل الذي صنع.

وهكذا في سنة الاضطباع، نبينا عليه الصلاة والسلام لما جاء لعمرة القضاء في العام السابع من الهجرة، وقد بلغه أن المشركين قد سرت بينهم شائعة كاذبة بأن المسلمين قد أوهنتهم حمى يثرب، قالوا: يقدم عليكم قوم قد أوهنتهم حمى يثرب، المدينة كانت مشهورة بالحمى بالملاريا، فهؤلاء المسلمون قد صاروا ضعفاء، هكذا قال المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا أصحابه: «رحم الله امرأ أراهم نفسه قوة»، ثم اضطبع عليه الصلاة والسلام، جعل طرف إحرامه الأيمن تحت كتفه اليسرى، ثم رمى به على كتفه اليمنى، جعل كتفه الأيمن عارية بادية، فصنع الصحابة مثل ما صنع. ثم أمرهم أن يرملوا بين الركنين اليمانيين، لأن المشركين كانوا على جبل أبي قبيس ينظرون، أمرهم بالرمل بأن يسرعوا مع تقارب الخطى وهز الكتفين، فعلت المشركين كآبة، وقال بعضهم لبعض: أين تلك الحمى التي حدثتمونا عنها؟ قد قدم عليكم أقوام كأنهم الجن، ليسوا إنسًا. عمر رضي الله عنه، بعدما أعز الله الإسلام وصار أميرًا للمؤمنين، لما خرج إلى الحج أراد أن يتبع، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اضطبع ورمل من أجل أن يري المشركين قوة، وليس في مكة اليوم مشرك. ثم قال رضي الله عنه: أمر صنعناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا ندعه رغم أن العلة قد زالت. لكن عمر رضي الله عنه يعلمنا أن مناسك الحج والعمرة قائمة على الاتباع، وهكذا أمر الدين كله قائم على متابعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مقتضى شهادتنا أنه رسول الله، أن نطيعه فيما أمر، وأن نجتنب ما نهى عنه وزجر، وأن نصدقه فيما أخبر، صلوات ربي وسلام عليه.

هكذا صنيعنا في حج البيت الحرام. أيها المسلمون عباد الله، الحج خير كله، نعمة كله، بركة كله. من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه. والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظ الحجاج والمعتمرين، وأن يردهم سالمين غانمين، وأن يعينهم على أداء نسكهم على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأن يوفقهم لما يرضيه عنهم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. توبوا إلى الله واستغفروا.

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله للهدى واليقين ينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، أيها المسلمون، فاتقوا الله حق تقاته وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.

واعلموا إخوتي في الله أن من المعالم العظيمة التي يتعلمها الحاج وهي من معالم الإسلام الكبرى تقوى الله عز وجل. فإن ربنا جل جلاله لما قال لنا: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ ختم الآية بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 196]. ولما قال لنا: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ قال لنا: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197]. ولما قال لنا: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قال: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 203]. تقوى الله عز وجل تلازم الحاج في مناسكه كلها، في رحلته كلها، منذ أن ينشئ نية النسك إلى أن يفرغ، مأمور بتقوى الله عز وجل أن يعمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله خوفًا من عقاب الله. هذه هي تقوى الله عز وجل. فإذا رجع من حجته فإن تقوى الله تلازمه في حياته كلها، يعلم أن التقوى هي وظيفة العمر، ليست قاصرة على شهر رمضان، ولا على يوم الجمعة، ولا على رحلة الحج، وإنما تقوى الله عز وجل هي وظيفة العمر منذ أن يبلغ الإنسان الحلم إلى أن تفارق روحه جسده، هو مأمور بتقوى الله في السراء والضراء، في العسر واليسر، في الشدة والرخاء، في الغنى والفقر، كيفما اتقى الله حيثما كنت، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت»، يشمل ذلك الزمان كله والمكان كله والأحوال كلها.

تقوى الله عز وجل هي وظيفة العمر. أيها المسلمون عباد الله، هذه الفريضة العظيمة صارت شبحًا لا روح فيه، جردت من معانيها، بل صارت عند كثير من الناس فخرًا ورياء وسمعة، يتبارون من حج إلى بيت الله أكثر، ومن أنفق في ذلك أكثر، وإنما الحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، لا يخالطه رياء ولا سمعة ولا التماس الحسن عند الناس. الحج، أيها المسلمون عباد الله، تتجلى فيه معجزة الإسلام حين يأتي الناس من كل فج عميق على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم وأجناسهم في لباس واحد، في مكان واحد، في زمان واحد، يرددون شعارًا واحدًا، لا يرفعون صورة ملك ولا زعيم ولا قائد ولا إمام، وإنما كلهم متوجه إلى الله عز وجل يرجو ما عنده من أجر وثبات وثواب.

كان ممكنًا أن يكون الحج فرصة لأن يلتقي المسلمون من تخصصات شتى، يتباحثون في أمور فيما يعلي شأنها، فيما يرفع الضر عنها، لكن الحج جرد من ذلك كله. رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حج حدث الناس عن الربا، حدث الناس عن الكرامة الإنسانية، عن الأخوة الإيمانية، حدثهم عن بغضه للجاهلية وما كانت عليه، أعلن في الناس بأنهم سواء، كلهم لآدم، وآدم من تراب، عند الله أتقاكم، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله. بيّن حقوق الإنسان، حقوق الأزواج، رجالًا ونساء، بيّن صلوات ربي أن أمر الجاهلية موضوع كله تحت قدميه، وأن ربا الجاهلية موضوع كله تحت قدميه، وأن دماء الجاهلية موضوعة كلها تحت قدميه. هكذا جعل من هذه شعيرة حية تتناول قضايا الناس. لكن هذا كله أميت وأريد للحج أن يكون عبادة بغير روح، مثلما صُنع في خطبة الجمعة في كثير من البلاد، كلمات تُقرأ من أوراق بالية لا تتناول شيئًا من أحوال المسلمين، ولا تجيب عن شيء من أسئلة المسلمين، ولا تحل شيئًا من مشاكل المسلمين. ومثلما أميتت الزكاة، ومثلما صار الصيام عند كثير من الناس، صار شهر رمضان شهرًا للهو واللعب وكثرة الأكل، أو شهرًا للبطالة والنوم والكسل وتضييع الصلوات واتباع الشهوات، بل وارتكاب المحرمات بالنظر إلى ما حرم الله عز وجل في الفضائيات ونحوها. هكذا أريد للعبادات أن تموت وأن تكون بلا روح.

نسأل الله عز وجل أن يعيد لها روحًا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك مطيعين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين. اللهم تقبل توبتنا، وحوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا. اللهم اجعل لنا من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك. يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا به حتى نلقاك. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تجعلنا في حفظك وحرزك وجوارك وتحت كنفك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك لإخواننا في غزة صبرًا جميلًا وفرجًا قريبًا. اللهم أحسن خلاصهم، اللهم فك أسرهم، اللهم أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في غزة، اللهم ثبت أقدامهم، قوِّ شوكتهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم سدد رميتهم، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم، ونعيذهم بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم. اللهم احفظ أهلنا بما تحفظ به عبادك الصالحين. اللهم عليك باليهود المجرمين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم عليك بمن شايعهم من المنافقين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا رب العالمين. اللهم انصر من نصر دينك، وأخذل من خذل دينك. اللهم أطفئ نار الحرب في السودان، وردنا إلى ديارنا سالمين غانمين، وولِّ علينا خيارنا ولا تولِّ علينا شرارنا، وآتِ ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. اللهم أبرم لإخواننا في الشام أمر رشد يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. فرج هم المغمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا أجمعين، وفك أسر المأسورين، وفرج عن عبادك المسجونين، ووسع على عبادك المقلين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى