المفسدة والمصلحة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
أولاً: توصيف الحالة العامة في البلاد أن فئة متسلطة باغية لا ترقُب في مؤمن إلاً ولا ذمة، قد استولت على الحكم عن غير استحقاق انتخابي ولا تفويض شعبي، مستعينةً على ذلك بالخداع والمخاتلة، وهي تمثل أحزاب الشمال ممن لا يرجون لله وقارا، حيث أعلنوها حرباً على الدين من أول يوم، وقد مَنَّوا الناس الأماني وبذلوا لهم الوعود المعسولة، ثم أسفرت الأيام عن سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؛ حيث زاد ضنك الناس في عيشهم أضعافاً مضاعفة، وقد فشلوا في حل أي مشكلة كانت سبباً للاحتجاجات التي أدت إلى سقوط حكم الإنقاذ، وتضرر الناس من سوء سياستهم أبلغ الضرر في سائر المجالات
ثانياً: كما أن العساكر الحاكمين قد تماهوا مع تلك الفئة يلبون رغباتها ويسارعون في أهوائها، وقد أعيت الناسَ الحيلُ في سبيل إقناعهم بأن هؤلاء الذين يشكلون الحكومة المدنية ليسوا إلا أقلية ضئيلة لا يمثلون سوى أنفسهم
وواقع الحال أن هؤلاء العسكر لا يفهمون سوى منطق القوة؛ ولا يحركهم شيء قدر ما يحركهم الشارع ليس إلا؛ فلا يبالون بعهد بذلوه ولا ميثاق عقدوه، بل همهم أن يتقوا غضب النا س ما استطاعوا ولو كان ذلك على حساب الدين
ثالثاً: في الوقت نفسه قد أصاب كثيراً من الإسلاميين وهْنٌ لن يزول إلا أن يشاء الله رب العالمين، حيث ألقى كثير منهم بيديه ورضي بالدون، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وكل منهم بلسان حاله يقول: نفسي نفسي وقد هلك الناس، اللهم إلا فئة يسيرة مصدِّقة بوعد الله عز وجل، حريصة على ألا تعطي الدنية في دينها، وقد أوفت بما عاهدت عليه الله، وهي تبذل ما تستطيع في سبيل النهي عن تلك المنكرات الظاهرة
وتأسيساً على ما سبق ذكره فإن المصلحة الشرعية قاضية بوجوب العمل على إزالة حكم هذه الفئة الباغية المتسلطة من أحزاب الشمال؛ حيث لم يحفظوا ديناً ولم يصلحوا دنيا، ولا مصلحة البتة في بقائهم على سُدّة الحكم، بل الواجب على كل مسلم أن يسارع في تقويض نظامهم وإسقاط حكمهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لأن الحكم ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة لحراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهؤلاء قد ضيَّعوا الدين والدنيا معا، وعليه فإن فريضة الوقت تتمثل في:
أولاً: العمل على زعزعة استقرارهم والحيلولة دون استمرارهم، وذلك باتباع كل وسيلة تلقي الرعب في قلوبهم، وتشرِّد بهم مَن خلفهم، كإغلاق الطرق والكباري والشوارع العامة؛ بوضع الحجارة وإشعال النيران وما جرى به عرف الناس في ذلك؛ ما دامت تلك الوسائل قد ثبتت فاعليتها، وأن العسكر الآمرين الناهين لا يفهمون سواها؟
ونبينا صلى الله عليه وسلم ثبت من سنته أنه حرَّق نخل بني النضير من أجل أن يحملهم على الاستسلام؛ وحين قالوا: يا محمد قد جئت ناهياً عن الفساد فما بال تحريق النخل؟ نزل قوله تعالى {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَخْرِيبِ دَارِ الْعَدُوِّ وَتَحْرِيقِهَا وَقَطْعِ ثِمَارِهَا عَلَى قولين: الأول- أن ذلك جائز، قال فِي الْمُدَوَّنَةِ. الثَّانِي- إِنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا، وَإِنْ يَئِسُوا فَعَلُوا، قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ. وَعَلَيْهِ يُنَاظِرُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ عَلِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ وَحَرَّقَ لِيَكُونَ ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ وَوَهْنًا فِيهِمْ حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهَا. وَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ جَائِزَةٌ شَرْعًا، مَقْصُودَةٌ عَقْلًا.ا.ه
ولو أن قائلاً اعترض على ذلك بتضمنه بعض المفاسد من تعطيل مصالح الناس وإيذائهم على نحو ما، فالجواب أنه ليس في الدنيا مصلحة محضة ولا مفسدة محضة، بل كل مصلحة مشوبة بمفسدة، ولا يخفى أن جهاد العدو بالسنان متضمن جملة من المفاسد من ذهاب الأنفس وبتر الأطراف وتخريب الممتلكات وغير ذلك، والشريعة قد جاءت مقررة أنه يجوز ارتكاب المفسدة الصغرى لدفع المفسدة الكبرى، وأنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام
هذا مع التنبُّه إلى أن ذلك مقيد بالعمل بتقوى الله وإعمال قاعدة تقليل المفاسد ما استطعنا، بقصر الإغلاق على الشوارع العامة، والانتهاء عن تلك الأعمال متى ما انتفت الحاجة الموجبة لها.
ثانيا: معلوم بأن أولئك البغاة – من أحزاب الشمال – قد استعملوا كل وسيلة خسيسة وضيعة لإسقاط حكم الإنقاذ، من ترويج الأكاذيب وتلفيق الأخبار وتشويه الأخيار واختلاق التهم وحض الناس على الشغب وإيغار الصدور وإنكار الإيجابيات وتضخيم السلبيات، وقد تسلط أولئك الأشرار على الحكم باستعمال تلك الوسائل ترهيباً للطيبين وخداعاً للمغفلين، والله تعالى يقول {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} ويقول {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ويقول {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها} لكن أهل الحق لا يروجون الأكاذيب بل ينشرون الحقائق، ولا يلفقون الأخبار بل يوضحون الأمور على ما هي عليه، ولا يشوهون الأخيار لكنهم يذكرون الفاجر بما فيه ليحذره الناس.
وهم حريصون على ألا تسفك دماء في غير حق ولا تنتشر الفوضى، بل يجتهدون في أن يزال المنكر بأدنى مفسدة وأقصر سبيل
ثالثاً: لا حرج في استئجار بعض الصبية اليُفَّع – أو غيرهم – للقيام بأعمال الشغب تلك؛ خاصة في ظل تخاذل كثير ممن ينبغي لهم القيام بها؛ إذ الناس ليسوا سواء حتى في الجهاد الشرعي؛ فبعض الناس يغزو ولا همَّ له إلا المنفعة الدنيوية، وقد قال عليه الصلاة والسلام (من غزا ولم ينو إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى) وبعض الناس هاجر وليس له هَمٌّ إلا امرأة ينكحها، ولم يكن ذلك حاملاً رسول الله صلى الله عليه وسلم على منعهم من الهجرة أو الجهاد، لكنه بيَّن أن الأجر على قدر النية
هذا، والمفلح من ابتغى وجه الله تعالى بعمله، ولم يحرص على لعاعة الدنيا، وكان همه أن ينصر الدين وأهله، جعلني الله وإياكم من حزبه المفلحين وأوليائه الصادقين، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على خير النبيين وإمام المرسلين.