الفتاوى

مراحل تحريم الخمر

فقد نال موضوع الخمر في القرآن الكريم مكانة لم ينلها طعام ولا شراب في حكمه، من نسخ وتدرج في التشريع وأن النسخ وقع في الشريعة الإسلامية، ووقع فيها على معنى أن الله نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض، ويرجع ذلك إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها, وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية في بدايتها ــ أي في بداية الدعوة الإسلامية ــ كانت تعاني فترة انتقال شاق؛ بل كانت أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها وموروثاتها وعاداتها, ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية تسير على مهل, فالخمر شيء اعتاده العرب في جاهليتهم بل إنك لا ترى بيتاً إلا وفيه خمر, وأمام هذه الغريزة العاتية جاء القرآن بمراحل عدة في تحريم الخمر؛ فمن غير المعقول أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها, لو لم يتألفهم وينطلق بهم إلى درجه أن يمن عليهم بها أول الأمر وكأنه يشاركهم في شعورهم, وإلى حد أن يحرمها عليهم في وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه, حين سألوه صلى الله عليه وسلم ((يسألونك عن الخمر والميسر)) وجاء أمر الله جل جلاله في ذلك على أربع مراحل كان ينسخ اللاحق السابق من الحكم مع بقاء التلاوة, وذلك في تسجيل تلك الظاهرة الحكيمة ظاهرة مراحل التحريم حتى يشهدوا أنه هو الدين الحق وأن نبيه صلى الله عليه وسلم نبي الصدق.

 المرحلة الأولى (مرحلة المنة والعتاب) قال تعالى في سورة النحل ((ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعلمون)) قال المفسرون: إن هذه أول آية نزلت في تحريم الخمر المرحلة الثانية (مرحلة السؤال والإجابة) الآية السابقة وكما يقول (الزمخشري) في كشافه (جمعت بين العتاب والمنة) فالله سبحانه وتعالى لفت أنظار الناس بهذه الإيماءة وأيقظ شعورهم وهيأ نفوسهم لتقبل ما يأتي من حكم فجاء قوله تعالى ((يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)) والمراد بالإثم هنا كل ما ينقص من الدين عند شربها وما فيها من إلقاء العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله، والنفع ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات, وما يتوصل به إلى الخير فهو الخير فالنفع خير وضده ضير، والمنفعة التي في الخمر ما يحصل من أرباح واكتساب وذهاب الهم وحصول الفرح وزيادة الكرم والشجاعة ((كما جاء في النهر الماد ــ لأبي حيان الأندلسي مطبوع بهامش البحر المحيط ج 1 ص 213)) المرحلة الثالثة (النهي عن قرب الصلاة في حالة السكر) المسلم الذي يتأثم بشرب الخمر منهي عن إتيان الصلاة حتى يفيق إفاقة تامة من المسكر, ليعلم ما يقول, ولينتفع بهذا الموقف الذي يقف فيه بين يدي الله I قال تعالى ((يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)) والمراد في هذه الآية قولان هما الأول: لا تتعرضوا بالسكر في أوقات الصلاة، الثاني: لا تدخلوا في الصلاة في حالة السكر وبعد نزول هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلاة فكانوا لا يشربون إلا بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما. المرحلة الرابعة (الأمر بالاجتناب) بعد التمهيد الرباني في الآيات السابقة وبقاء الأمر بين التحليل والتحريم نزل الأمر الإلهي الجازم بتحريم الخمر تحريماً شاملاً بقوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^  إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون)) دلت الآية على أن الخمر رجس (والرجس) النتن القذر وقد يسمى الكفر والنفاق رجساً لأنه نتن … قال تعالى ((فزادتهم رجساً إلى رجسهم)) والمراد بالرجس في هذه الآية: النجس أو الخبيثة المستقذرة وخلاصة الأمر أن جمهور المفسرين لا يذكرون تحريم الخمر إلا ويذكرون الآيات السابقة التي نزلت في تحريم الخمر, وأنهم يرون أن فيها إشارة إلى التحريم وأن التحريم القاطع كان في سورة المائدة … وبذلك يكون القرآن قد حرم شرب الخمر بأي اسم ولون على المسلمين بهذه المراحل الأربع…وذلك نظراً لاعتياد العرب منذ الجاهلية على شربها مما يعسر النهي عنها مرة واحدة حمانا الله وإياكم من شرها السؤال. هل في هذا الموضوع خطأ أو كلام غير صحيح

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

فهذا الكلام في الجملة صحيح، وهو يشير إلى سنة ربانية في التشريع وهي التدرج، ونلحظ هذا في العبادات قبل العقوبات؛ ففي الصلاة قالت عائشة رضي الله عنها {أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين؛ فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر} وفي الصيام كان في أول الأمر فرض الله صيام عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر؛ ثم فرض الله صيام رمضان، وكان في أول الأمر على التخيير بين الصيام والإطعام، ثم استقر على الصيام، وكذلك في المحرمات ففي أول الأمر كان الربا المحرم ما كان أضعافاً مضاعفة، ثم حرم كله قليله وكثيره بقوله سبحانه ((اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)) وكذلك في العقوبات كانت عقوبة الزانيات الحبس في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا، ثم أنزل الله الحد في سورة النور، وبين النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ما يجب إيقاعه على الزاني المحصن من العقوبة.

وهذا كله من حكمة ربنا جل جلاله في أخذ العباد بالتدرج حتى يألفوا الواجبات ويجتنبوا المحرمات، وإن كان ثمة مؤاخذة ففي تسمية ذلك نسخاً حيث إن بعض العلماء ينازع في ذلك، ولا يجعله من باب النسخ، ثم في قولك: لا ترى بيتاً إلا وفيه خمر!! فإن بعض الصحابة – كأبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون وعباس بن مرداس ـ ما شرب الخمر في جاهلية ولا إسلام، وبعضهم حرمها على نفسه قبل أن يحرمها الإسلام؛ كما قال قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه:

رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحاً        ولا أشفى بها أبداً سقيما

ولا أعطي بها ثمناً حياتي          ولا أدعو لها أبداً نديما

فإن الخمر تفضح شاربيها    وتجنيهم بها الأمر العظيما

وبعض من لم يسلم لم يشرب الخمر كأمية بن أبي الصلت وعبد الله بن جدعان كما ذكر ذلك الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير آية البقرة ((ويسألونك عن الخمر والميسر)) والله أعلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى