الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فالأصل في هذا أن المسلم الراغب في النجاة بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، المدرك لخطورة المسئولية هو أن يتحفظ من المناصب، وألا يسعى إليها أو يحرص عليها، بل عليه أن يعتقد أن أهلها في بلاء فيبذل لهم النصح ويحمد الله على العافية، وعليه أن يرهب ذلك الأمر ويحذره؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يوم القيامة يده إلى عنقه، فَكَّه برُّه أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة) قال المنذري: رواه أحمد ورواته ثقات إلا يزيد بن أبي مالك.ا.هـــــ وهذا الحديث صححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى
وقال صلى الله عليه وسـلم لأبي ذر رضي الله عنه حين طلب منه أن يستعمله (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) رواه مسلم. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية.ا.هـــــــ ومعنى كلامه رحمه الله تعالى أن ضعف أبي ذر رضي الله عنه ما كان في دينه، بل إنما من جهة رأيه، وهذا مما لا شك فيه حيث إن النبي صلى الله عليه وسـلم قد أثنى عليه بقوله (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء رجلاً أصدق لهجة من أبي ذر)
ويشتد هذا النهي فيما لو كان الشخص طالباً لتلك الوظيفة مجاهراً بذلك، لثبوت النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه (لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها) رواه الشيخان.
ومعناه كما قال الشوكاني رحمه الله تعالى في (نيل الأوطار): أن من طلب الإمارة أو القضاء فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه عليها. ويستفاد منه أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه، فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك. وأن من حرص على ذلك لا يعان.ا.هـــــــــــ
فإذا كان الطالب مسلوب الإعانة تورط فيما دخل فيه، وخسر الدنيا والآخرة، فلا تحل تولية من كان كذلك. وربما كان الطالب للإمارة مريداً بها الظهور على الأعداء والتنكيل بهم، فيكون في توليته مفسدة عظيمة.. وهو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}
وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال عليه الصلاة والسلام (إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه( وفي رواية لمسلم أنه قال) لا نستعمل على عملنا من أراده) قال ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري: ظاهر الحديث منع تولية من يحرص على الولاية إما على سبيل التحريم أو الكراهة، وإلى التحريم جنح القرطبي، ولكن يستثنى من ذلك من تعيَّن عليه. اهـ.
فلو أن شخصاً علم من نفسه الأهلية لمنصب، ورأى جمعٌ من أهل الحل والعقد صلاحيته فلا حرج عليه في السعي لحصوله، وعليه أن يتحمل المسؤولية في ذلك بنية إحقاق الحق وعدم إعطاء الفرصة لأهل الباطل في التحكم في أمور المسلمين. وقد نص بعض أهل العلم على ذلك؛ فقد قال خليل في المختصر في كلامه على القضاء: ولزم المتعين أو الخائف فتنة إن لم يتولَّ أو ضياع الحق القبول والطلب وأجبر وإن بضرب.ا.هـــ
وبمثل هذا المعنى قال الفقهاء المعاصرون؛ ففي الموسوعة الفقهية: يختلف الحكم باختلاف حال الطالب، فإن كان لا يصلح لها إلا شخص وجب عليه أن يطلبها، ووجب على أهل الحل والعقد أن يبايعوه، وإن كان يصلح لها جماعة صحَّ أن يطلبها واحد منهم، ووجب اختيار أحدهم، وإلا أجبر أحدهم على قبولها جمعاً لكلمة الأمة، وإن كان هناك من هو أولى منه كره له طلبها، وإن كان غير صالح لها حرم عليه طلبها.ا.هـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فطلب الرئاسة والإمارة مما يختلف حكمه بحسب نية صاحبه وغايته، فقد يُحمد وقد يُذم، والله يعلم المفسد من المصلح، فمن طلبها نصرة لدينه، وسعيا لإقامة العدل وشريعة الله في خلق الله، فإنه إن كان كفئا لها لم يُذم، بل يُحمد ويُشكر، ويُثاب ويُؤجر، فأما المفسد الذي يسألها ويحرص عليها طلبا لعرض من الدنيا، ففيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ وُلُّوا هَذَا الْأَمْرَ أَنَّهُمْ خَرُّوا مِنْ الثُّرَيَّا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلُوا شَيْئًا) رواه أحمد وحسنه الألباني والأرنؤوط.
الخلاصة
أولاً: الأصل هو ألا يحرص المسلم على المنصب ولا يسعى إليه
ثانياً: الحرص على المنصب لا يذم بإطلاق، بل بحسب نية صاحبه
ثالثاً: من علم أنه لا يصلح لهذا المنصب غيره يجب عليه طلبه